الملف رقم 2 / الثأر /
هناك بآخر كرسي في المطعم ، جلست أرقب الزبائن من تحت قبعتي و أنفث دخان سجارتي أتأمله في صمت و أسرح بتفكيري أين بامكاني أن أجدها ، و من أين أبدأ البحث داخل هذه المدينة الواسعة المكتضة بالناس ، و إن تقدمت بسؤال أحدهم أعرف تماما رده ، سينظر إلي بازدراء و ربما يلتفت للناحية الأخرى دون أن يعيرني أي اهتمام ، هذا مع العلم أن مظهري الأنيق لا يليق أبدا بشخص يبحث عن سيدة مثلها أو تحمل اسما كاسمها ، لكن هذا لا يهم ، عند الضرورة تباح المحضورة و أنا أبيحها لنفسي الآن ، فالمظاهر لن تنفعني في شيء و لن تزيدني إلا عرقلة لسبيلي ..
أشرت للنادل أن يتقدم و بعدما دناَ مني سائلا عن طلبي قلت له : ليس أكثر من سؤال ، فابتسم في وجهي يفرد ذراعيه : طلباتك أوامر سيدي ..
آآه كم يعجبني التواضع فيك أيها النادل و إني أخشى أن يختفي بعد سؤالك عنها ، فبعد أن أخذت نفسا عميقا نطقت أخيرا أسأله عن حاجتي ، و إنه بعدما سمعني أنطق اسمها توقف في مكانه دون حراك فقط فتح فمه أو بالأحرى فكه السفلي و أسقط الصينية من يده ، و لما استجمع نفسه أخذ يتمتم ثم يقول لي : أوَ تعرف كبر المدينة و حجمها ، ما من شخص عاقل سيعطيك اسما غريبا كهذا و وصفا كوصفك و يطلب منك أن تدله عليه ، و ما من عاقل يبحث عن إبرة داخل كومة قش ..
لست أبالغ و إني استغربت فعلا ، لوقاحته أولا و لنفسي ثانيا فمعه حق ، لم أنتظر طويلا بل حملت نفسي و رميت بحقيبتي الجلدية على كتفي و خرجت من المطعم أشق طريقي وسط الزحام بالشارع ، و هناك قرب إشارة المرور أخذت ألوح بيدي لسيارات الأجرى المارة الى أن توقفت احداها ، دفعت جسدي النحيل داخلها و طلبت من صاحبها ... مهلا ، أقصد صاحبتها اذ كانت السائق امرأة ، كيف لا وعصر العولمة و التيكنولوجيا و المساواة و غيرها من العناوين يسمح بأغرب من هذا ..
طلبت منها أن توصلني لأقرب فندق ممكن ، لتلوح بيدها بحركة شبابية ثم تقول : لبيك ، فقط سؤال : هل تريد فندقا جيدا من خمس أو أربع نجوم أم تريد فقط اسم الفندق و حجرة للنوم ..
ضحكت لجرأة هذه السيدة و قلت لا فرق عندي غير أني أود مكانا أقضي به ليلتي .. أدارت المحرك ، و سارت السيارة تطوف بنا شوارع المدينة و أنا منهمك في تأملي للبنايات الشاهقة و المارة بالشارع كلٌ يسير و هدفٌ يدور برأسه .. و أنا لي كذلك هدفي ولا بد أن أبلغه هذه المرة و أن لا أعود خاوي الوفاض .. لازالت السيارة تخترق بسرعتها الهواء فتشقه نصفين بغير رحمة كما يشق مقص الخياط الأثواب أو أكثر ، الطقس الحار و كثرة الزحام و أصوات السيارات و دخانها المتصاعد يقلقني فلا أحتمله لأجدني أتوجه كل مرة للسيدة أسألها ما إن اقتربنا معلنا عن تضجري و مللي ..
ها نحن الآن بأطراف المدينة حيث لا يوجد إلا منازل قيد الانشاء و نَسَمَةٌ خفيفة ، ثم ها هو ذا طريق صغير يقود خارجها و ها أنا الآخر أسأل السيدة : ألم نقترب بعد ؟ ، لأجد جوابا وحيدا يتكرر عند كل سؤال: أيها الغريب سأوصلك حتى مطلبك فلا تقلق ..
لم يكن أمامي خيار غير الصمت و لو أن الوضع لا يدعو للطمئنينة ، لكني كنت أتجنب أن أحرج كرامتي كرجل و أخاف مجرد امرأة ، و هناك عند غروب الشمس ترسم لوحتها البديعة في الأعالي ، بمساحة خاوية لا يُرى لك منها إلا رمال على مد البصر تتلألأ تحت بقايا الأشعة الخافثة ، توقفت السيارة .. و استادرت السيدة نحوي تقول : انزل فقد وصلنا ..
كشرت حاجباي في تعجب و أخذت أحدق فيها كتحديق طائر البوم في فريسته ، عبثا أحاول اخفاء جنوني المستعد ليثور في أي لحظة أسألها : وصلنا أين ؟ ..
هناك رفعت طاقيتها و قد اتكأت بكتفيها على كرسيها و ابتسمت ..
أجل ..إنها هي .. ابتسامتها لا و لن تخفى علي حتى و إن غيرت السنين في ملامحها ..
بصعوبة ابتلعتُ الصدمة و بصعوبة استجمعت قواي و قبل أن ألفظ بكلمة قالت : لقد شققتَ طريقا طويلا حتى وصلت إلي ، و شققت أنا أطول منه حتى وصلت إليك .. إنك تريد الانتقام و أنا أودك أن تعرف الحقيقة ..
إن من تسعى للانتقام لأجلها ليست والدتك و لم أقتلها و لم أضع لها السم في طعامها كما زعموا ، أول من تزوجها والدك كانت أنا ، لكنها دخلت حياتنا و أخذت تقلب فيها الأمور رأسا على عقب ، ووصل بنا الأمر بعد للانفصال عن بعض ، أخذوك مني و رحت أنا للقضاء أشكي ما ألـمّ بي ، لكن لم أجد من يعيرني اهتماما .. و مع تهديداتي الكثيرة المتواصلة لهما خططا أن يقضيا علي و يقتلاني ، فما كان منهما إلا أن يدعواني للغذاء في ذلك اليوم ، و يدسا السم في طبقي ، لكن الحظ كان لجانبي فاختلطت عليها الأمور و وضعت طبقي أمامها بدلا مني ، و لم يكن منها إلا أن تتسمم و تقع في شر فعلتها ..
ظننت أن والدك سيلين بعدها ، لكن جن جنونه و اتهمني بقتلها و اتصل بالشرطة و حكى لك غير الذي في الواقع ، و أوهمك أن تلك كانت والدتك و أني ساحرة أفرق الأسر و أقتل النساء و غيرها من الأكاذيب و لا أدري ربما أخبرك أني جنية أو العمة الغولة أو أي شيء حتى تبتلع طعم كذبته .. كنت صغيراً حينها ، لذلك وجد من السهل جدا التحايل عليك ..
بالفعل قصة مؤثرة ما سمعته عن المرأة ، لكن لم أستطع تصديقها و شيء بداخلي يقول تلك طريقة خبيثة في التملص من جريمتها و إعاقة لي حتى لا آخذ بثأري منها .. فما كان مني إلا أن أخرجت سكينتي من جيب سترتي التي أعددتها سابقا ، و بدون شفقة أو رحمة هويت أخترق بها صدرها و أمزقه شر تمزيق ، أروي بذلك عطش السنين للثأر و أخلص نفسي من عقدة لازمتني طيلة حياتي ..
لقد كان قتلها هو الكابوس الوحيد الذي عشت عليه طفولتي و مراهقتي و ليلتها حققته .. كان مشهدا لذيذا و أنا أعيش نشوة الانتقام لوالدتي ، أغرس السكينة هنا و أخرجها و أعيد غرسها بمنطقة أخرى من جسمها ، حتى تلطختُ و تلطخ كل ما حولي بدمائها و لم أتوقف إلا على صوتٍ مألوف يقول : توقف ، توقف ، إنها والدتك ..
حينها كان كمن دق مسمارا بقلبي ..
إنه صوت أبي الواصل متؤخرا و قد خالطه صوت سيارات الشرطة ..
سيدي المحقق ، لا أدري من المذنب حقا ، هل أنا ، أم والدي ، أم وصولكم المتأخر لمكان الجريمة ، لكن أدري و أعي شيئا وحيدا ، هو أني عشت كتلة زائدة لا تفيد و لا تزيد و لا تنقص . . و رميها خلف القضبان لن يغير من مصيرها شيئا ..
أشرت للنادل أن يتقدم و بعدما دناَ مني سائلا عن طلبي قلت له : ليس أكثر من سؤال ، فابتسم في وجهي يفرد ذراعيه : طلباتك أوامر سيدي ..
آآه كم يعجبني التواضع فيك أيها النادل و إني أخشى أن يختفي بعد سؤالك عنها ، فبعد أن أخذت نفسا عميقا نطقت أخيرا أسأله عن حاجتي ، و إنه بعدما سمعني أنطق اسمها توقف في مكانه دون حراك فقط فتح فمه أو بالأحرى فكه السفلي و أسقط الصينية من يده ، و لما استجمع نفسه أخذ يتمتم ثم يقول لي : أوَ تعرف كبر المدينة و حجمها ، ما من شخص عاقل سيعطيك اسما غريبا كهذا و وصفا كوصفك و يطلب منك أن تدله عليه ، و ما من عاقل يبحث عن إبرة داخل كومة قش ..
لست أبالغ و إني استغربت فعلا ، لوقاحته أولا و لنفسي ثانيا فمعه حق ، لم أنتظر طويلا بل حملت نفسي و رميت بحقيبتي الجلدية على كتفي و خرجت من المطعم أشق طريقي وسط الزحام بالشارع ، و هناك قرب إشارة المرور أخذت ألوح بيدي لسيارات الأجرى المارة الى أن توقفت احداها ، دفعت جسدي النحيل داخلها و طلبت من صاحبها ... مهلا ، أقصد صاحبتها اذ كانت السائق امرأة ، كيف لا وعصر العولمة و التيكنولوجيا و المساواة و غيرها من العناوين يسمح بأغرب من هذا ..
طلبت منها أن توصلني لأقرب فندق ممكن ، لتلوح بيدها بحركة شبابية ثم تقول : لبيك ، فقط سؤال : هل تريد فندقا جيدا من خمس أو أربع نجوم أم تريد فقط اسم الفندق و حجرة للنوم ..
ضحكت لجرأة هذه السيدة و قلت لا فرق عندي غير أني أود مكانا أقضي به ليلتي .. أدارت المحرك ، و سارت السيارة تطوف بنا شوارع المدينة و أنا منهمك في تأملي للبنايات الشاهقة و المارة بالشارع كلٌ يسير و هدفٌ يدور برأسه .. و أنا لي كذلك هدفي ولا بد أن أبلغه هذه المرة و أن لا أعود خاوي الوفاض .. لازالت السيارة تخترق بسرعتها الهواء فتشقه نصفين بغير رحمة كما يشق مقص الخياط الأثواب أو أكثر ، الطقس الحار و كثرة الزحام و أصوات السيارات و دخانها المتصاعد يقلقني فلا أحتمله لأجدني أتوجه كل مرة للسيدة أسألها ما إن اقتربنا معلنا عن تضجري و مللي ..
ها نحن الآن بأطراف المدينة حيث لا يوجد إلا منازل قيد الانشاء و نَسَمَةٌ خفيفة ، ثم ها هو ذا طريق صغير يقود خارجها و ها أنا الآخر أسأل السيدة : ألم نقترب بعد ؟ ، لأجد جوابا وحيدا يتكرر عند كل سؤال: أيها الغريب سأوصلك حتى مطلبك فلا تقلق ..
لم يكن أمامي خيار غير الصمت و لو أن الوضع لا يدعو للطمئنينة ، لكني كنت أتجنب أن أحرج كرامتي كرجل و أخاف مجرد امرأة ، و هناك عند غروب الشمس ترسم لوحتها البديعة في الأعالي ، بمساحة خاوية لا يُرى لك منها إلا رمال على مد البصر تتلألأ تحت بقايا الأشعة الخافثة ، توقفت السيارة .. و استادرت السيدة نحوي تقول : انزل فقد وصلنا ..
كشرت حاجباي في تعجب و أخذت أحدق فيها كتحديق طائر البوم في فريسته ، عبثا أحاول اخفاء جنوني المستعد ليثور في أي لحظة أسألها : وصلنا أين ؟ ..
هناك رفعت طاقيتها و قد اتكأت بكتفيها على كرسيها و ابتسمت ..
أجل ..إنها هي .. ابتسامتها لا و لن تخفى علي حتى و إن غيرت السنين في ملامحها ..
بصعوبة ابتلعتُ الصدمة و بصعوبة استجمعت قواي و قبل أن ألفظ بكلمة قالت : لقد شققتَ طريقا طويلا حتى وصلت إلي ، و شققت أنا أطول منه حتى وصلت إليك .. إنك تريد الانتقام و أنا أودك أن تعرف الحقيقة ..
إن من تسعى للانتقام لأجلها ليست والدتك و لم أقتلها و لم أضع لها السم في طعامها كما زعموا ، أول من تزوجها والدك كانت أنا ، لكنها دخلت حياتنا و أخذت تقلب فيها الأمور رأسا على عقب ، ووصل بنا الأمر بعد للانفصال عن بعض ، أخذوك مني و رحت أنا للقضاء أشكي ما ألـمّ بي ، لكن لم أجد من يعيرني اهتماما .. و مع تهديداتي الكثيرة المتواصلة لهما خططا أن يقضيا علي و يقتلاني ، فما كان منهما إلا أن يدعواني للغذاء في ذلك اليوم ، و يدسا السم في طبقي ، لكن الحظ كان لجانبي فاختلطت عليها الأمور و وضعت طبقي أمامها بدلا مني ، و لم يكن منها إلا أن تتسمم و تقع في شر فعلتها ..
ظننت أن والدك سيلين بعدها ، لكن جن جنونه و اتهمني بقتلها و اتصل بالشرطة و حكى لك غير الذي في الواقع ، و أوهمك أن تلك كانت والدتك و أني ساحرة أفرق الأسر و أقتل النساء و غيرها من الأكاذيب و لا أدري ربما أخبرك أني جنية أو العمة الغولة أو أي شيء حتى تبتلع طعم كذبته .. كنت صغيراً حينها ، لذلك وجد من السهل جدا التحايل عليك ..
بالفعل قصة مؤثرة ما سمعته عن المرأة ، لكن لم أستطع تصديقها و شيء بداخلي يقول تلك طريقة خبيثة في التملص من جريمتها و إعاقة لي حتى لا آخذ بثأري منها .. فما كان مني إلا أن أخرجت سكينتي من جيب سترتي التي أعددتها سابقا ، و بدون شفقة أو رحمة هويت أخترق بها صدرها و أمزقه شر تمزيق ، أروي بذلك عطش السنين للثأر و أخلص نفسي من عقدة لازمتني طيلة حياتي ..
لقد كان قتلها هو الكابوس الوحيد الذي عشت عليه طفولتي و مراهقتي و ليلتها حققته .. كان مشهدا لذيذا و أنا أعيش نشوة الانتقام لوالدتي ، أغرس السكينة هنا و أخرجها و أعيد غرسها بمنطقة أخرى من جسمها ، حتى تلطختُ و تلطخ كل ما حولي بدمائها و لم أتوقف إلا على صوتٍ مألوف يقول : توقف ، توقف ، إنها والدتك ..
حينها كان كمن دق مسمارا بقلبي ..
إنه صوت أبي الواصل متؤخرا و قد خالطه صوت سيارات الشرطة ..
سيدي المحقق ، لا أدري من المذنب حقا ، هل أنا ، أم والدي ، أم وصولكم المتأخر لمكان الجريمة ، لكن أدري و أعي شيئا وحيدا ، هو أني عشت كتلة زائدة لا تفيد و لا تزيد و لا تنقص . . و رميها خلف القضبان لن يغير من مصيرها شيئا ..
نهاية الملف رقم اثنين